منوعات

بعد الاتفاق السعودي – الإيراني التاريخي برعاية صينية: فجر جديد في الشراكة العربية – الصينية

بقلم رئيس تجمّع رجال وسيدات الأعمال اللبناني – الصيني علي محمود العبد الله

شكّل الإعلان السعودي – الإيراني عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بعد “السنوات السبعة العجاف” برعاية صينية، تطوّر إيجابي مفاجئ للعديد من الدول حول العالم، وخطوة تاريخية على مستوى المشهد الجيوسياسي الشرق أوسطي والعالمي، خصوصا في ظلّ التوتر المتزايد على الساحة الدولية. إذ في حين تتفاقم الأزمات العالمية، وتتجه العلاقات الدولية إلى مزيد من التأزّم نتيجة الحرب في أوكرانيا، وتتدهور الأوضاع الاقتصادية والمالية في الولايات المتحدة وأوروبا، يشكل الإتفاق السعودي – الإيراني في العاصمة الصينية بكين خطوة استراتيجية عالمية في الاتجاه الصحيح نحو الاستقرار والسلام الدوليين. ولا شك إن الاتفاق سيجسّد إذا إستُكمل بشكل إيجابي، فرصة للبلدين ولكل دول المنطقة، لتخفيف التوترات من جهة وتعزيز العلاقات الاقتصادية من جهة أخرى. ومن الضروري البدء بمناقشة الفوائد المحُتملة لهذه الصفقة بالنسبة للسعودية ولإيران والصين على حد سواء، فضلاً عن الانعكاسات الإيجابية على المنطقة العربية، خصوصا وأن الاتفاقية تمثّل فجرا جديدا في الشراكة العربية – الصينية، ومحرّكا طال انتظاره لخدمة السلام والاستقرار والأمن الإقليمي والعالمي.

 

استقرار أسواق النفط

بداية، من البديهي القول إن ثمة فوائد عدة بالغة الأهمية لهذه الصفقة. إيران والمملكة العربية السعودية دولتان رئيسيتان منتجتان للنفط، وأي تعاون بينهما يمكن أن يؤثر على أسواق النفط العالمية، وتاليا على الاقتصاد العالمي. وهنا من الضروري الانتباه إلى أن كِلا البلدين هما أعضاء في مجموعة “أوبك بلس” التي باتت تلعب دورا متزايد الأهمية في منظومة النفط العالمية بقيادة الرياض، خصوصا بوجود روسيا في هذه المجموعة، وهي الدولة التي تمتلك مركزا أساسيا بين أكبر الدول من حيث احتياطيات النفط العالمي. وبلغة الأرقام يمكن أن نعي بشكل أفضل بعض المرتكزات والمعطيات والتوقعات المبنية على هذا الاتفاق. وفقا لأحدث التقارير، تحتل السعودية المركز الثاني بعد فنزويلا من حيث احتياطيات النفط المؤكدة، وبحسب منظمة أوبك يبلغ الاحتياطي السعودي نحو 267.1 مليار برميل، أما إيران فتمتلك احتياطي مؤكد يبلغ 208.6 مليار برميل. وإذا جمعنا الاحتياطيان السعودي والإيراني نجد أنه يمثّل أكثر من ثلث إحتياطيات أوبك النفطية المُعلنة.

ومن هنا يمكن القول إن استعادة العلاقات قد تؤدي إلى زيادة التعاون على مستوى إدارة مستويات إنتاج النفط واستقرار أسعار النفط العالمية. ووفقا لوكالة الطاقة الدولية (IEA)، من المتوقع أن يرتفع الطلب العالمي على النفط بمقدار 1.6 مليون برميل يوميا في العام الحالي، وقد تكون أي جهود لتحقيق الاستقرار في السوق مهمة للاقتصاد العالمي الذي يعاني أصلا من أزمات اقتصادية ومالية بالغة الخطورة.

إضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤدي استعادة العلاقات بين البلدين إلى زيادة التجارة والاستثمار بينهما، خصوصا إذا تمكنت إيران والولايات المتحدة من التوصل إلى اتفاق حول الملف النووي. وبحسب بعض المصادر، لم يتخطى التبادل التجاري بين إيران والسعودية بضعة ملايين من الدولارات سنويا خلال الأعوام التي تلت الأزمة بينهما، وهذا رقم “مأساوي” مع دولة مثل السعودية يتجاوز ناتجها المحلي بحسب الهيئة العامة للإحصاء نحو ترليون دولار. ومع هذا، هناك إمكانات كبيرة لهذا النمو، لا سيما في مجالات مثل الزراعة والبتروكيماويات والسياحة وغيرها من القطاعات الاقتصادية الرئيسية. ويمكن أن يشكل الاتفاق الإيراني السعودي منصة لتعاون مستقبلي واعد، مما قد يوفر المزيد من الفرص للشركات والمستثمرين لا في البلدين فحسب، بل في مختلف بلدان الشرق الأوسط.

 

حماية المصالح الصينية

كذلك، سيكون للصفقة آثار إيجابية على المصالح الصينية في المنطقة. وباعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأكبر مستورد للنفط من المنطقة، فإن للصين مصالح كبيرة في الشرق الأوسط. كذلك استثمرت الصين بشكل كبير في البنية التحتية والطاقة وقطاعات النقل في منطقة الشرق الأوسط، وأية اضطرابات سلبية محتملة تتعرض لها هذه الاستثمارات يمكن أن يكون لها تأثير سلبي على اقتصاد الصين. ومن خلال التوسّط في هذه الصفقة، تؤكد الصين التزامها بتعزيز السلام والاستقرار في المنطقة والعالم، وحماية مصالحها الاقتصادية.

ولا شك أن المفاعيل الاقتصادية المُحتملة للاتفاقية خصوصا في حال استكمالها بشكل واسع، ستتوسّع إلى ما هو أبعد بكثير من إيران والسعودية والصين. تتمتع منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بإمكانية التحوّل إلى قوة اقتصادية كُبرى، حيث بلغ إجمالي الناتج المحلي المجمّع للبلدان العربية وفقا لبيانات المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات (ضمان) نحو 3.4 تريليون دولار في العام 2022. ومع ذلك، أدت الصراعات الإقليمية وعدم الاستقرار السياسي إلى إعاقة النمو الاقتصادي والتنمية. ويمكن أن تشكل استعادة العلاقات بين إيران والسعودية خطوة مهمة نحو تكامل وتعاون اقتصادي إقليمي أكبر. كما يمكن أن يؤدي إلى توفير المزيد من الفرص أمام القطاع الخاص داخل المنطقة وخارجها.

من جهة أخرى، يُمكن أن يكون للاتفاق انعكاسات إيجابية على السلام والاستقرار الإقليمي والعالمي. وقد تساهم العلاقات المستقرة بين إيران والسعودية في الحد من الصراعات الإقليمية وتحوّلها إلى صراعات أكبر وأكثر تدميرا. وهذا أمر بالغ الأهمية بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، التي إبتُليت بعدم الاستقرار والصراعات لعقود من الزمن. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤدي استعادة العلاقات إلى زيادة التعاون بين إيران ودول الخليج الأخرى، وهو ما قد يكون له آثار إيجابية على السلام والاستقرار الإقليميين.

ومن منظور عالمي، قد يكون لاستعادة العلاقات بين إيران والسعودية انعكاسات كبيرة على ميزان القوى العالمي. كلا البلدين لاعبان رئيسيان في المنطقة، وأي اتفاق بينهما يمكن أن يؤثر على المشهد الاستراتيجي الدولي، خصوصا مع استمرار الصين في لعب دور أكثر ثقلا في القضايا العالمية. ولا شك إن جهود الصين التي أثمرت اتفاقا بين البلدين، تُظهر التزام بكين بتعزيز الاستقرار والتعاون في المنطقة وخارجها، وقد يكون لذلك تداعيات أوسع على علاقات الصين مع القوى الكُبرى الأخرى، مثل الولايات المتحدة وروسيا.

لكن دعونا نكون أكثر حذرا في قراءة نتائج هذه الاتفاقية، إن تطبيع العلاقات بين إيران والسعودية قد لا يُحقق كل النتائج المرجوة بشكل سريع لكل دول المنطقة، وخصوصا في سوريا والعراق ولبنان واليمن وغيرها من نقاط الاحتكاك بين البلدين. إذ لا تزال هناك خلافات سياسية كبيرة بين البلدين ينبغي التعامل معها كأمر واقع، ولن يختفي انعدام الثقة الذي ساد العلاقات بين الطرفين بين عشية وضحاها. وهناك أيضا مخاوف من أن الصفقة قد تتم عرقلتها من أطراف دولية غير مستفيدة، ولا شك إن أية اضطرابات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية مستقبلية يُمكن أن تساهم بشكل ما في إشعال التوترات بين البلدين. هذه مرحلة بالغة الدقة، وسيكون علينا مراقبة تصرفات الدول العُظمى إزاء هذه الإتفاقية.

 

ترسيخ الدور الصيني

لكن كل القراءة التي قدمناها حول الاتفاقية تبدو ناقصة إذا لم نقارب بشكل كامل مصالح الصين في المنطقة. لقد احتفلت الصين والعالم العربي العام الماضي بالذكرى الـ 66 على إقامة العلاقات الدبلوماسية، وهي التي بدأت بين الصين ومصر في العام 1956. منذ ذلك الحين، نمت العلاقات الاقتصادية بين الصين والدول العربية بشكل كبير، مدفوعة بطلب الصين المتزايد على الطاقة وحاجة الدول العربية إلى الاستثمار والتنويع الاقتصادي.

في السنوات الأخيرة، استمرت العلاقات الاقتصادية بين الصين والدول العربية في التوسّع. ووفق وزارة الخارجية الصينية، بلغ حجم التبادل التجاري بين الطرفين نحو 330 مليار دولار. أما العلاقات الصينية – السعودية فتشكل مفصلا أساسيا في العلاقات بين البلدين. السعودية هي المصدر النفطي الأول بالنسبة للصين، وتشكل الواردات النفطية السعودية 18 في المئة من مجمل الواردات النفطية الصينية، وهي شكلت 1.77 مليون برميل يوميا خلال الأشهر العشرة الأولى من العام 2022. وفي العام 2021 بلغت قيمة استيراد الصين من النفط السعودي نحو 43.9 مليار دولار. أما حجم الواردات الصينية من السعودية فبلغ نحو 57 مليار دولار في العام 2021، أما السعودية فاستوردت من الصين خلال الفترة ذاتها ما قيمته 30.3 مليار دولار.

لكن المشهد لا يكتمل من خلال قراءة العلاقات السعودية – الصينية فحسب، الطاقة عنصر أساسي في علاقات الصين الاقتصادية مع الدول العربية كلها. الصين هي أكبر مستورد للنفط في العالم وتعتمد بشكل أساسي على واردات النفط من الشرق الأوسط. وبحسب تقارير مختلفة، يبدو أن الصين ترفع تدريجيا من استيراد النفط الإيراني، ويقدر البعض أن الصين استوردت 306 آلاف برميل نفط يوميا من إيران خلال العام 2020 رغم وجود العقوبات الغربية على إيران. ثلاثة بلدان في الشرق الأوسط تشكل أكبر مصادر النفط بالنسبة إلى الصين، وهي السعودية، العراق والإمارات.

وبعيدا عن قطاع الطاقة، تشمل العلاقات الاقتصادية بين الصين والبلدان العربية مجموعة من القطاعات، بما في ذلك البنية التحتية والاتصالات والتمويل. لقد شاركت الصين في العديد من مشاريع البنية التحتية الكبرى في المنطقة، مثل بناء الموانئ والطرق السريعة والسكك الحديدية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، تستثمر الصين في تطوير منطقة البحر الأحمر الاقتصادية في السعودية، لإنشاء مركز للتجارة والاستثمار العالميين. كما تنشط الشركات الصينية في قطاع الاتصالات في المنطقة. وقد وقعت هواوي، عملاق الاتصالات الصيني، عدة اتفاقيات مع دول عربية لتطوير شبكات اتصالاتها، بما في ذلك دول مثل السعودية ومصر والإمارات.

علاوة على ذلك، فإن العلاقات المالية للصين مع البلدان العربية آخذة في التوسع أيضا. ويعتبر منتدى التعاون الصيني العربي، الذي تأسس في العام 2004، بمثابة منصة لتعزيز التعاون الاقتصادي بين الصين والدول العربية، وساهم المنتدى في إنشاء صندوق الاستثمار الصيني العربي، الذي يوفّر التمويل للبنية التحتية ومشاريع أخرى في المنطقة.

 

علاقات وثيقة

وللدلالة أكثر على مدى أهمية المنطقة العربية بالنسبة للصين، يكفي أن نذكر أن التبادلات التجارية ارتفعت بين الطرفين من نحو 37 مليار دولار في العام 2004 إلى أكثر من 330 مليار دولار في العام 2022. وبحسب مراكز أبحاث، فإن الاستثمارات الصينية في الدول العربية تخطت 213.9 مليار دولار بين عامي 2005 و2021، ولذلك يمكن وصف الصين بأنها تمثّل أكبر مستثمر أجنبي في العالم العربي. كذلك، أرست الصين علاقات شراكة استراتيجية واسعة مع 12 دولة عربية، ووقّعت أيضا اتفاقيات للمضي قدما بمبادرة “الحزام والطريق” مع 20 دولة عربية. وتلقت الصين تأييدا من 17 دولة عربية في ملف مبادرة التنمية العالمية، وانضمت 15 دولة عربية إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وتم إنشاء 17 آلية تعاون في إطار منتدى التعاون الصيني العربي.

وغني عن الذكر أن الصين تستثمر ضمن مبادرة الحزام والطريق مئات مليارات الدولارات لإنشاء موانئ وطرق سريعة وسكك حديدية لتعزيز التجارة مع عدد كبير من بلدان العالم، وعلى رأسها الدول العربية. أما الاستثمارات الصينية، فتتوزع على عدد كبير من الدول العربية. وبحسب تقارير، تستحوذ السعودية على 21 في المئة من إجمالي الاستثمارات الصينية في العالم العربي، ، تليها الإمارات مع 17 في المئة، والعراق مع نحو 14 في المئة، تليه مصر والجزائر مع 12 في المئة لكل منهما.

بناء على هذه القراءة الموجزة للحدث التاريخي المتمثّل في الاتفاق السعودي – الإيراني، ومع الأخذ بالاعتبار مدى صلابة العلاقات العربية – الصينية، نستطيع أن نتوقع المزيد من الجهود الدبلوماسية الصينية والعربية لتعزيز العلاقات بين بلدان المنطقة من جهة والصين من جهة أخرى. وربما نستطيع القول اليوم، إن الصين التي باتت تلعب دورها الطبيعي كقوة عالمية إلى جانب الولايات المتحدة، ستستمر بممارسة دورها البنّاء على مستوى المنطقة والعالم، وبشكل يحقق الاستقرار ويشجّع على تحقيق السلام والأمن الدوليين. نحن أمام حدث تاريخي، ونتمنى أن يُستكمل بحيث يتم ترسيخه وتطويره بين السعودية وإيران لتحقيق النمو والتعاون والاستقرار في كل أرجاء المنطقة. كما نأمل أن تكون السنوات السبعة العجاف التي بدأت عند اشتعال الأزمة بين السعودية وإيران قد ولّت إلى غير رجعة، وأن تكون الصين قد انخرطت بقوة في حلّ النزاعات في المنطقة والعالم، لتلعب دورها الطبيعي كقطب اقتصادي وسياسي عالمي صاعد قادر على تغيير التاريخ.